تشييد افتراضي

ينهمك المصمّمون في التعامل مع حجمٍ هائلٍ من المعلومات، لبناء مستشفى في سان فرانسيسكو، قبل البَدء بالأساسات، ولكن إلى أي مدى قد تسهم هذه التصاميم الافتراضية في تخفيض تكلفة البناء؟

يجول أتول كانزود، وهو مقاول بناء، داخل أنابيب شبكة تهوية معقدة خاصة بمركز طبي جديد تصل تكلفة إنشائه إلى 1.5 مليار دولار، ولا يبعد سوى بضع مبان من خليج سان فرانسيسكو. وفجأة، يواجه عقبة في طريقه: أنابيب التهوية الكبيرة التي يقوم بمتابعتها، تختفي عند هذا الجانب من أنبوب رش المياه الذي يعمل عند حدوث حريق، لتظهر من جديد على الجانب الآخر. ويقول في نفسه: “هذا خطأ لا يجب أن يحدث. يجب على مهندسي المبنى أن يكونوا على اطلاع تام، ويجب إصلاح الخلل فورا”.

 

حلّ هذه المشكلة لا يتطلب الكثير من الجهد، لأنّ مثل هذه الأنابيب لا وجود له أصلا على أرض الواقع، بل إن المستشفى برمته غير موجود على الإطلاق، خصوصا عندما نعلم أن كانزود يجلس أمام جهاز كمبيوتر داخل مقطورة واسعة تقف على حافة الموقع الذي تم اختياره لبناء المستشفى عليه، ولا تزال الأعمال حاليا في مرحلة تجريف الأرض. لذا فإن بناء الشبكة، وكلّ شبكات التهوية، ليس سوى مجرد بيانات في ملف رقميّ يبلغ حجمه 14 جيجابايت، وقد جرى تخزينه على الجهاز الخادم. كانزود كان قد دخل إلى صورة فتحات التهوية، وأبحر عبر الأنابيب التي تتكون منها الشبكة، ولم يستخدم سوى نقرات معدودة من خلال هذا البرنامج، حيث يقوم تارة بتدوير الصور التي تظهر أمامه، وتارة أخرى بتكبيرها، كما لو كان يلهو بإحدى ألعاب الفيديو. ويقول معلقا: “لو كانت هذه العملية تتم على أرض الواقع، لاستغرق حلّها أسبوعا كاملا. أما الآن، وبما أننا لا نزال في مرحلة التصميم الرقمي، فإنّ الأمر لا يحتاج سوى إلى دقيقتين”.

 

يشغل كانزود منصب مدير الإنشاءات الافتراضية في شركة مقاولات عامة تدعى “دي بي آر كونستراكشن” (DPR Construction)، وتتخذ من ردوود سيتي في ولاية كاليفورنيا مقرا لها. إنه واحد من أصل 120 موظفا تابعين لـ30 شركة مختلفة، قضوا 16 شهرا في عملية البناء الافتراضية لمركز طبي جديد تابع لجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، تبلغ مساحته 81569 مترا مربعا. ومن غير المتوقع أن تبدأ عمليات الإنشاء الفعلية لهذا المشروع قبل بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول المقبل، علما أنه من المقرر إنجاز المشروع في يونيو/ حزيران من العام 2014.

 

من خلال بناء المركز الطبي باستخدام رسومات ذات أبعاد ثلاثية، وتخزينها في ملفات رقمية كخطوة أولى، يمكن للقائمين على أعمال التصميم والبناء اكتشاف المشاكل والعمل على حلها بسهولة، وبتكلفة أقلّ أيضا. وتقول شركة “دي بي آر”، وكذلك المتعاونون معها، إنها تمكّنت بالتعاون مع الأطراف الأخرى من اختزال مدة البناء 5 أشهر مقارنة بالجدول الزمني المحدد، إضافة إلى توفير 100 مليون دولار من الميزانية المخصصة لهذا المشروع.

 

ويقول ستيوارت إيكبلاد، مدير تصميم وبناء المركز: “إن الأمر المهم بالنسبة إلينا في هذه المرحلة، هو القدرة على التنبؤ بمجريات الأمور اللاحقة، خصوصا أننا مدركون تماما لحقيقة أن بناء المبنى على النحو الذي تظهره الرسومات ربما يكون متعذرا، حتى لو كانت تلك الرسومات صحيحة تماما”.

 

لقد شهدت صناعة الإنشاءات تغييرات جذرية خلال السنوات الخمس الماضية؛ فطريقة البناء القديمة كانت تقوم على التعاقد مع المصمم، ليوضع المشروع بعد ذلك في مرحلة العطاءات، ومن ثم تتم دعوة شركة الإنشاءات وشركات التوريد الأخرى. وربما يقوم مقاول التمديدات الصحية من الباطن بفرض مجموعة الرسومات التي يضعها على الطاولة، لتأخذ الأولوية على المخططات الخاصة بالتمديدات الكهربائية والتدفئة والتبريد، الأمر الذي يؤدي إلى نشوب صراعات ومشاكل بين مختلف الأطراف التي تعمل في المشروع. ولذا يتحتم أولا وضع التصميم ومراجعته بدقّة قبل الشروع بأي عمل، بما يتيح المجال أمام جميع أنظمة العمل لدراسة المساحات المخصصة لها.

 

وتعمل الطريقة الجديدة التي تعرف بـ”التصميم والبناء الافتراضي”، على الجمع بين شركة الإنشاءات وعدد من مقاولي الباطن خلال مرحلة وضع التصميمات الخاصة بالمبنى. وفي حالة المركز الطبي التابع لجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، فقد بدأت شركة متخصصة في الهندسة المعمارية في سان فرانسيسكو، وتدعى “أنشين آند ألين” (Anshen & Allen) أعمال التصميم في شهر مارس/ آذار من العام 2007، ومن ثم تمّ التعاقد مع شركة “دي بي آر” لتكون المقاول العام لهذا المشروع في شهر أغسطس/ آب 2008. وفي شهر مارس/ آذار 2009، بدأ مقاولو الباطن للأعمال الميكانيكية والصحية والكهرباء ومجالات أخرى، إضافة البيانات الخاصة بأعمالهم وإدخالها إلى النموذج الحاسوبي.

 

ومع أن الرسم على أجهزة الكمبيوتر بالأبعاد الثلاثية سائد منذ عقود، إلا أنّ ما هو جديد في هذا الشأن، هو أن التكنولوجيا تطوّرت بشكل سريع خلال السنوات القليلة الماضية، لتضيف المزيد من القدرات إلى نماذج البيانات الرقمية، بما في ذلك الجداول الزمنية لنشاطات البناء، وتكاليف المواد، والتخطيط لسيناريوهات الأحداث المحتملة، مثل كيفية تأثير الأعاصير أو الرياح الشديدة أو أشعة الشمس في المخططات الهندسية. ويستطيع كانزود، سحب أحد الطوابق من هذا المستشفى والنقر على صورة الباب، ومن ثم سيقوده البرنامج إلى مستند يحمل كل التفاصيل المتعلقة بهذا الباب، مثل حجمه وتكوينه وتشطيباته، ومعرفة ما إذا كان مخصصا لمخارج الحريق أو غير ذلك. ويقول كانزود موضحا هذه النقلة النوعية في البرامج: “إن هذا الأمر يشبه إلى حدّ بعيد، التحول من موسوعة (بريتانيكا – Britannica) إلى متصفح (جوجل)”.

 

وتقول شركة “أوتوديسك” (Autodesk) العملاقة المتخصصة في تطوير البرمجيات، إنها قامت بتطوير فكرة برنامج نمذجة معلومات البناء “بي آي إم” (BIM) قبل 7 سنوات، لكنه سجّل أقوى انطلاقة له في الآونة الأخيرة، لينتشر على نطاق واسع. وتستخدم الشركات العاملة في قطاع الإنشاءات، أدوات هذا البرنامج بكثافة.

 

وبعد أن كانت نسبة الاستخدام تقتصر على 28%، وصلت إلى 48% بين العامين 2007 و2009. ويدعم البرنامج الجديد، نمو نشاطات النماذج بالأبعاد الثلاثية التي تطورها “أوتوديسك”، التي ارتفع نموها بنسبة %10 في العام الماضي. وهناك شركات منافسة لها، ومنها على سبيل المثال “جرافيسوفت” (Graphisoft) و”بنتلي سيستيمز” (Bentley Systems) المملوكتان للقطاع الخاص. واعتمد المصممون على برامج البناء الافتراضي في عمليات إنشاء استاد “ميدولاندز” العملاق في ولاية نيو جيرسي، إضافة إلى ملعب “تارجت فيلد” الجديد في مينيابوليس التابع لنادي “مينيسوتا توينز”. وتستخدم شركة “إيداس” (Aedas) التي تتخذ من هونج كونج مقرا لها، أدوات برنامج “بي آي إم” التي تطورها “أوتوديسك” في عملية تصميم برج “أوشين هايتس” (Ocean Heights) السكني الذي يبلغ ارتفاعه 83 طابقا في مدينة دبي، حيث تستفيد من التكنولوجيا التي يوفرها البرنامج لتعزيز الإطلالة على البحر، عن طريق التواء متعمد من ثلاث جهات للبرج. كما يسمح هذا البرنامج بتحديد المواقع بدقة لأكثر من 10 آلاف لوح زجاجي سيتم تثبيتها على جدران المبنى.

 

ومن المتوقع أن يساعد البرنامج على إبراز أهمية الجمع بين الكفاءات من مختلف التخصصات في مكان واحد، من أجل معالجة المشاكل حال وقوعها. وهناك بجوار موقع إنشاء المركز الطبي، قطعة أرض تبلغ مساحتها 1115 مترا مربعا، قامت شركة البناء بإنشاء مكتب عليها، أطلقت عليه اسم “الغرفة الكبيرة”، حيث يعمل فيه 35 موظفا من شركة الهندسة المعمارية، و20 موظفا من شركة المقاولات والمركز الطبي، و45 شخصا يمثلون 26 شركة في مجال البناء. وعندما تبدأ عمليات الإنشاء، سيتضاعف حجم الغرفة الكبيرة لتتمكن من استيعاب عمّال البناء، الذين سيعتمدون على الوثائق التي يوفرها برنامج التصميم الافتراضي لهم.

 

ويتوقع ستيفن وايتمر، كبير موظفي التصميمات لدى مقاول الباطن الذي يتولى أعمال التبريد والتدفئة والتهوية، وهي شركة “إيه سي سي أو إنجينيرد سيستيمز” (ACCO Engineered Systems)، أن يكون هناك مستوى أقل من هدر الوقت والمواد في هذا المشروع، علما أنه يقوم عادة بإضافة ما نسبته 4% من المواد التي تتعرض للهدر عندما يتقدم بأي عطاء، لكن مع وجود التصميم الافتراضي، فقد عمد إلى خفض النسبة إلى ما يتراوح بين 1 و2%.

 

وكذلك، فإنّ التخطيط للمستقبل أسهم في الحد من العمليات غير الضرورية. فقد كان المصممون يفترضون أن المبنى سيحتاج إلى تجهيزات خفض الضجيج لتقليل الضوضاء المنبعثة من أنظمة التدفئة والتهوية والتبريد، ولكن بعد الرجوع إلى النماذج التي وضعها البرنامج، تبيّن لشركة الإنشاءات أنه لا توجد هناك حاجة إلى مثل هذه الأنظمة، الأمر الذي ساعد على توفير ما يقرب من مليون دولار. واكتشف القائمون على المشروع أيضا، عدم الحاجة إلى وضع نظام صوتي للتواصل مع الجمهور، بعدما أدرك المصممون أنه يمكن استخدام نظام إنذار الحريق لهذا الغرض أيضا، وبالتالي تم توفير 630 ألف دولار.

 

لا تزال هناك مكامن خلل ينبغي التوصل إلى حلول لها، ومنها أن هيئة تنظيم الرعاية الصحية في ولاية كاليفورنيا، تتطلب وثائق ثنائية الأبعاد لغرض إصدار التصاريح المطلوبة. وكانت عملية ترجمة الرسومات من 3 أبعاد إلى بعدين اثنين تستغرق شهرا كاملا في البداية، لكنها اليوم تحتاج إلى مدة من أسبوع واحد إلى 10 أيام. وفي البداية كان البرنامج يواجه صعوبة في جدولة 700 باب تبدو متشابهة، ولكن ليست متطابقة تماما.

ويقول كانزود: “عندما بدأنا التعامل مع هذا البرنامح، كانت هناك شكوك كثيرة أبداها بعض المصممين، لكننا نطلب من الجميع تغيير طريقتهم في العمل”.

 

 

 

شارك هذه المعلومات مع غيرك...Share on Facebook0Share on Google+0Tweet about this on TwitterShare on LinkedIn0
 

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.


*



*